ذاكرة لا تنام .... دوار الحصان الحديدي


استيقظت جنين اليوم بعد ليلة تشرينية صاخبة، مع ساعات الليل الأولى بدأت أسمع أصوات الآليات والمعدات العسكرية الإسرائيلية الثقيلة وهي تتوجه بصخبها و قهرها و جبروتها إلى مدينة ومخيم جنين، ليلة قاسية، رصاص، قصف جوي لأحد الأحياء السكنية الصغيرة في مخيم جنين، و تستيقظ جنين على جراح لم تلتئم، أجساد بجراح دامية، و شهداء ارتقوا علياء السماء.


صناعة الدمار:

اليوم تتحدث شوارع المدينة و مخيمها، و لكل ركن منها ذاكرة، ليست الشوارع فقط، بل محلات تجارية ساكنة منذ فترة، تعيش أياماً من الإضراب المفتوح بعد كل ما يحدث من قتل و مجازر و وحشية في قطاع غزة، كانت بضع محلات وواجهات تجارية نائمة قبل أن تقض الآلة العسكرية الإسرائيلية مضجعها، و تكسر مفاصلها، في مخيم جنين تغفو  ذاكرة الوجع، لكنها لا تنسى و لا تنام نوماً عميقاً.



نصب تذكارية و ذاكرة لا تنام : 
في روح كل منا ذاكرة يخفيها في حقيبة يحبها، في ملعقة يحرك فيها القهوة، و ربما فنجان قهوة قديم بحافة مكسورة، لكنه يحافظ عليها ففيها كثير من الذاكرة، وفي جنين شوارع تكتنز بالذاكرة.

تبدو النصب التذكارية حجارة صامتة ساكنة بخشوع، و مكتنزة بذاكرتها و وجعها، تزدحم شوارع جنين بالتذكارات، كما تزدحم قلوب سكانها بالوجع و الحسرة، و ذاكرة من الفقدان، وعلى أطراف مخيم جنين كان يقف حصان حديدي، منذ اليوم سأقول  كان يقف، كان هنا، و منذ اليوم دخل حيز الوجع و الزمن الماضي، و صار تذكاراً مرتين، أما الأولى فيوم صنع من بقايا دمار العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين في العام 2002، و أما الثانية فكانت ليل أمس حيث كان نصب الحصان التذكاري بما يحمله من ذاكرة وجع هدفاً للآلة العسكرية الإسرائيلية، التي لم تكتف بتدميره، بل حملته معها في خروجها بعد ليلة من الدمار .


حصان و ذاكرة : 
حين تسير في المخيم لأول مرة، حين تتوه قليلاً، ستجد من يرشدك دوماً، ولا بد أنه سيقول لك" بتعرف الحصان، امشي بعده على الشمال، على اليمين، لفوق ، لتحت ...." المهم أنك ستصل، يقف الحصان مكان  أجساد لشهداء ناموا مكانه بعضاً من الوقت حتى تمكن أهلهم و ذويهم من دفنهم في مقابر الشهداء بعد إنتهاء العدوان الإسرائيلي العام 2002.
يقف الحصان صرحاً للذاكرة و لأمل العودة، حيث جاء إلى مدينة جنين في العام 2003 "توماس كبلبر " وهو فنان و متطوع ألماني وقام بالتعاون مع مركز جوتة الثقافي و بلدية جنين ببناء هذا المجسم مستخدماً قضبان الحديد الخاصة بالبناء، والتي جمعها من ركام الدمار و الأنقاض التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي، كان يقف الحصان موجهاً وجهه عالياً مصوبا ناظريه إلى حيفا، حيفا روح الذاكرة في مخيم جنين، و أول الوجع، إذ ينحدر سكان مخيم جنين من زرعين و من حيفا و قراها و بلدانها .

يحكي هيكل الحصان حكاية إعادة البناء بعد الدمار و التخريب، و يحكي جسده الخارجي وجعاً موازياً، فالحصان يفق على مقربة من البوابة الخلفية لمستشفى جنين الحكومي، مستشفى الشهيد خليل سليمان، ومن بقايا مركبة إسعاف كان يستقلها الشهيد الدكتور خليل سليمان _ مدير مركز الإسعاف التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في مدينة جنين، و الذي استشهد خلال  إسعاف وإنقاذ مصابين داخل المخيم، ومن بقايا مركبات المدينة المدمرة تمت صناعة الجسد الخارجي للحصان .

اليوم تشتعل الذاكرة بالكثير من الصور و الوقفات و الحكايات التي كانت هناك، إلى جانب الحصان، اليوم ثانية تفتأ جراح شباب فلسطيني كان طفلاً قبل عشرين عاماً، و كبروا الصغار.. كبروا ولا زال جرحهم الذي انفتق في بداية الألفية ينزف حتى الآن، ولا زال الاحتلال الإسرائيلي يصنع الدمار، و يطوف حوله.












تعليقات

المشاركات الشائعة