ستون مليون أمل و حياة

قراءة في رواية الكاتب الفلسطيني مروان عبد العال
ستون مليون زهرة 

هذا المساء كان صوت الآليات العسكرية و معدات الهدم و الجرافات قوي جداً، بالكاد استطعت النوم، العتمة داكنة جداً، و ضوء المصباح الاحتياطي الصغير الذي أحشوه بجيبي خافت تماماً، ولا ظل لي على الجدران، تختفي ظلالنا في العتمة، و يطول الليل في بعدها.
في الصباح و بينما كنت أمشي إلى بسطة الفلافل، لم يكن تذكار الحصان موجوداً، كانت أمي كلما مررنا بمحاذاته تقول لي :" هو بعمرك تقريباً... أنت و إياه جيال." اليوم هو مش هون.

ربما تتساءل من هذه " جنين" التي تكتب لي كل هذا، و بعبث صبياني سأقول :"أنا الجغرافية و التاريخ، ولدت العام 2003، وحملت الاسم لأتذكر آلام و مخاض أمهاتنا تحت وطأت الاجتياح و الحصار، ومنذ بدأت خطواتي الأولى بدأت ألعب في الساحة مع جيراننا، و نركض نركض، و بالكاد التقط أنفاسي و أنا أتعكز على الجدار.
لا أجيد كتابة الرسائل، و بالكاد أستطيع إرسال قليل من الرسائل الصوتية لصديقاتي، أقول فيها كثيراً من التفاصيل غير المهمة، و أنسى لما فكرت حقاً في إرسال رسالة لهن، ماذا كنت سأقول؟! 

  رسالتي قادمة من بلاد الوجع في ليلة باردة، و أعرف أن أوجاعنا واحدة، أما أنت فتحمل في روحك شوق طفل ولد بين جدران المخيم العام ...  و نشأ وعيونه تنظر إلى سماء تطل على البلاد" فلسطين"، و تذهب... إلى الغابسية، و الغابسية في وعيك كما أرى أنا زرعين بوعي و روح ، على
 أنني أعيش وجع الفقد مرتين، ولك أن تشعر بهذا القرب
 المميت من البلاد و البعد عنها، يمكنني أن أراها في ليلة
 صافية مقمرة من شباك نافذتي، لا... لأكن صادقة علي أن
 اعتلي السطح لأطل عليها بوضوح، و أتأكد أنها حفظت
 ملامحي، لكنها أيضاً بعيدة، و يصعب علي الوصول إليها.
تدفعنا اللحظة لفعل شيء لا ندرك ما يقف خلفه، منذ بدأ العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في السابع من تشرين الثاني، وجد نفسي أسير إلى المكتبة، و أقرأ روايتك(ستون مليون زهرة)، الليلة أنهيتها للتو، و بدأت أكتب إليك، كأن أوجاعنا تتكرر مراراً.
نصب تذكاري لجندي مجهول، و دليلة ووجوه كثيرة تمر أمامه كل صباح، كل مساء، و كثير عن ذكريات حلم لم تكتمل، بقي الجندي مجهولاً، و ظلت أحلامنا مرهونة بوقف التنفيذ، معلقة على جدران الانتظار، ننتظر العودة، و نشتاق الحرية، و نتأمل أن ينتهي ليل المخيمات، شتاؤها القارس، لم تكتمل أحلامنا فدليلة، و عازف الأكورديون، و العنكبوت و كل يلقي بعبء يومه فوق كاهل جندي من خيبات ثقيلة، حملها معه ذات نكبة، ذات نكسة، ولا زال يحمل عبء الموت عدوانا بعد آخر، و يكثر أمامه العابرون في طريقهم إلى مقابر الشهداء.
تحطم كثير من الدوارات المركزية في جنين، تغيرت ملامح الشوارع تماماً، يقول جدي كلما مررنا بمحاذاة دوار البطيخة، كم كان بطيخ جنين حلواً، شهياً، أحمر اللون، و يتابع متغنيا بالقمح و البطيخ و رائحة الزعتر، نحب البلاد كثيراً، رصفنا شوارعنا و الدوارات بالذاكرة، هدموا الدوارات و بقيت الذاكرة، و بقي الورد في غزة رغم كل حصار، فليس ورد غزة ورد وحسب، ففي غزة مليونين ونصف زهرة و حياة، ربما يطوف بها الموت الآن، لكنها حكاية الشوق الدائم للحياة، للأمل، لجمال تنتظره العيون، تزدحم الشوارع بالموت، بكثير من الشهداء، تغيب كثير من أسمائهم، لكنه البقاء، فلكل منهم حلم، و حكاية، وقصة لم يكملها، و الحكايات لا تفنى ولا تزول، و غداً عندما تتنفس الأرض الصعداء ثانية، و تتوقف نوبة آلة الموت و الحرب المريضة، ستزدحم ذاكرتك أيها الجندي المجهول بكثير من الأسماء و الصور و الحكايات، و فوق الأضرحة نزرع كثيراً من ورد غزة، طازجاً نقياً لامعاً، كان يعبر الحدود مسافراً يوزع الحياة، و يقرأ رسائل الحب في أعياد الميلاد و الحب، هو اليوم كما كان إلا أنه قيد انتظار الحياة
و الأمن و السلام ، ولا تكفيه هدنة قصيرة حتى يتبرعم، و يزهر، و تشرئب بتلاته، وأوراقه.
بين غزة و الضفة حكايات ذاكرة لا تمحوها جسور، و أسلاك شائكة، و حواجز من وهم، بين دليلة و جليلة، بين نابلس و غزة، بين هنا و هنا حكايات أمل و حب للبلاد، عزف هنا و هناك، تختلف نوتة العزف، و تراتب الإيقاع، صاخباً هنا، هادئاً هناك، كلاسيكيا هنا، تقدميا هناك، حداثيا هنا، شعبويا هناك، و كلاهما هنا و كلاهما هناك ... بفرق توقيت عابر و كثير من الأمل والتفاؤل و الحياة.
ستون مليون زهرة و حكايات وشوشات أمل رسمتها حروفك.








تعليقات

المشاركات الشائعة