أنا... أنا... أنا

أنا ... أنا... أنا هذا لا يهم…..

إنها الحرب...وهذا يومها المئة وحتى الآن لا زلت هنا...  أنا الآن في العاشرة من العمر.... و ربما سأظل في العاشرة من العمر.... فإنها الحرب


يمكنني الآن تجاوز الأمر ، فهناك حشد كبير من الناس، ولن يصغي أحد لصوتي.

  كانت أصعب لحظة لدي في بداية  كل فصل دراسي أن أقف أمام المعلمة و الطلاب و ابدأ بقول اسمي، عمري، و كان علي في النهاية أن أجد شيئاً مبهراً أكثر مما قاله صديقي عزيز...، و اليوم أفتش عن صديقي عزيز بين مئات النازحين هنا، ترى هل وجد لنفسه مكاناً في بيوت أقاربه، عزيز ليس هنا اليوم، لكنه هاجسي الخفي، فعلي في كل حال أن أفتش عن شيء مبهر أكثر مما يقوله عزيز ،وماذا عساه


يقول مع كل ما يحدث الآن! .


أنا لا أحب السبورة، بلونها الأخضر الغبي، و رائحة الطباشير، و لونها المطحون على أصابعي.




المسافة بين مقعدي و السبورة، مسافة قاسية حادة، ساحة حرب لا أحب خوضها، أرتجف مراراً و أقرأ ما تيسر من القليل الذي أحفظه من آيات القرآن، عل المعلمة تتجاوز وجهي، فلا تطلب مني الوقوف لحل مسألة رياضية غبية لا أعرف حلها على كل حال، تبدو هذه المسافة القاسية رحلة ممتعة أهرب بها من ارتفاع أصوات القصف الجوي في المناطق المحاذية، وأتجاهل بها سيل التحليلات العسكرية و السياسية التي يرتلها أبي مع كثير من الرجال الذين لا أعرفهم، و لا أذكر أن أبي تقاسم معهم شيئاً من الخبز و الحكايات، هكذا كان والدي يعوض صوت التلفاز الذي لم يعد موجوداً منذ احتمينا بخوفنا وقلقنا في مركز الإيواء، و اليوم احتمي أنا بقلقي و خوفي بالسبورة و الطباشير التي لا أحبها و هنا أكتب عليها دون قلق، لن يضحك زملائي علي إذا أخطأت، ولن تتفرس المعلمة وجهي وهي تبحث عن لعبة تعليمية تستثمر فيها خطئي لترسخ المعلومة الغبية الصحيحة في ذهن باقي الطلاب، دون أن تكترث باحساسي


الفردي بالهزيمة أمام سؤال غبي كهذا لم أستطع حله.




اليوم أزاحم صبية حينا الصغير على فراش بارد ممزق، و وسادة مشققة بصوف رطب، برائحة متعفنة، في بداية الحرب طبخت أمي لنا الحمصيص، لم يبدأ الشتاء بعد، لكنها الحرب، و لأول مرة وضعت بعض البقدونس الأخضر، بدلاً من الحمصيص، مضغت شفتي و أنا أكل، بينما تقول أمي:" في الحرب كل اشي بيصير" صحيح كل شيء يحدث في الحرب، إلى درجة أن أغفو بملاصقة مراد، و أتقلب في


نومي و أجدني صباحاً وقد تعلقت قدمي فوق ظهره.




الكثير من الأشياء تحدث في الحرب، أستيقظ باكراً، لأني لا أكاد أنام و ارتداد صوت القصف يدق في رأسي، في حلمي، و أقف في طابور طويل أمام مشارب المدرسة، و أزاحم البقية لأتمكن من غسل يدي ووجهي، و أنشف يدي بقميصي المتسخ، فلا وقت للغسيل، لا ... لا ملابس كثيرة لدي الآن، و ليس لدى أمي ترف الغسيل بغسالة بحوضين، كانت تجمع بعض القروش في صرة صغيرة تخبئها في صدرها، لتشتري غسالة أوتوماتيكية، سيكون عليها اليوم أن تغسل بحوض صغير، و سينحني ظهرها وهي تقلب ملابسي المتسخة بالطين، في حوض بلاستيكي فيه بعض المياه المالحة، وربما لن تتمكن من هذا الترف، فقد لا تتوفر المياه،وربما لن تجد قليلاً من


الصابون تدعك به طين الشتاء


..

إنها الحرب...وهذا يومها المئة، قضيت وقتا طويلاً في صغري، أحفظ الأرقام و أعدها، و مراراً أخطأت العد، لكنها الحرب أحصي فيها قهري، ووجعي، أنين معدتي، و فرقعة عظامي في ليلة باردة، و رعشاتي المتلاحقة في ساعة قصف دامية، أحصي الوقت وحتى الآن لا زلت هنا...  أنا الآن في العاشرة من العمر.... و ربما سأظل في العاشرة من العمر.... فإنها الحرب


.


.








تعليقات

المشاركات الشائعة