يسافر اللون.. .. تسافر الحكايات

معرض مئة لوحة من غزة 




مئة لوحة تسافر في طريقها من غزة إلى الضفة الغربية، تعبر مسافات و حواجز، تطوي بعضها على بعضها، و تنكمش الألوان في عتمة الصناديق، قبل أن تصل لنكون نحن ضيوفها نقلب الوقت و نمر بين اللوحات واحدة بعد أخرى، في قاعة مكتب وزارة الثقافة في جنين، تقف أربعة و أربعون لوحة لفنانين و فنانات من قطاع غزة، وهي مجموعة من مئة لوحة وصلت إلى الضفة الغربية حتى يلتقي الفن بالفن، و نلمح بالعين تلك التداخلات اللونية التي تجمع أمواج البحر، و صفرة رمال الشاطئ، و ذاكرة حية حرة تجمع من ذاكرة الشتات تراب الأرض و لون العشب، و حدة أشواك الصبار.

الخميس الثاني و العشرين من شباط العام 2024، كان اليوم الثالث و الختامي للمعرض الفني في جنين، و الذي يضم لوحات موقعة بريشة فنان من غزة، لم نلتقيه يوماً، لم نسمع صوته، و لم نره يتجول بين لوحاته، سعيداً بتجول الزوار في أروقة المعرض، مصغياً لكل ما يقال، تقف اللوحات تقرأ وجوهنا، و تتصفح دهشتنا و نحن نتلمس أقمشة الكانفوس المشدودة على إطارات خشبية، و نصغي لصوت الكاتبة و الشاعرة_ مدير مكتب الثقافة في محافظة جنين الكاتبة_ حنين أمين وهي تروي وصول هذه اللوحات الفنية منذ أعوام، حيث تم جمعها و إعادة شدها لتكون صامدة اليوم في هذا التوقيت الذي ترزح فيه غزة بمحافظاتها و شوارعها، و سكانها أهلها، شبابها، شاباتها، فنانيها و فناناتها، كتابها و كتاباتها تحت نير و نيران قذائف الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه المستمر منذ مطلع تشرين الأول العام الماضي 2023و حتى الآن.
في الحرب تتوه الفنون، وفي الحرب كم نحتاج إلى تلك البصمة التي تتركها الفنون في أنفسنا، لا زلت أذكر وجع الفنانة فداء السمار من مخيم جنين، وهي تتحدث بحرقة، وبصوت مخنوق عن ألوانها، لوحاتها، و جدران منزلها التي كانت تكتنز باللوحات الفنية، قبل أن تتعرض جنين في شهر حزيران من العام 2023ثلاثة أيام متواصلة من الاقتحام و المداهمة للعديد من المنازل، و اليوم و في اليوم الختامي لمعرض مئة لوحة من غزة إلى جنين، أقف أمام لوحات فنية جميلة، لكنها تمضغ بين شفتيها مرارة الفقد، فلا تعرف أين يسكن فنانوها، في أي مركز نزوح، في أي مدرسة من مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، في أي مشفى، تحت أي ركام، تحت أي ردم، في أي مكان يسكن فنانوها، تحت أي وجع تغيب ريشتهم و ألوانهم.
تفتح لوحات المعرض بلوحة الفنانة الشهيدة هبة زقوت، لوحة تزدحم بالأبنية و ترسم فيها وجه المدينة بروح حية، و ألوان زاهية، تتدرج بين صنوف الوردي و تدرجاته، ألوان تشق الحياة، و تتنفس الأمل، الأمل الذي لم يحالف الفنانة لتنجو من شبح الموت الذي يتجول بعبثية و بآلة عسكرية إسرائيلية مدمرة، و يهبط جوا بقذائف صاروخية نارية قاتلة، يتجول الموت و يقطف أرواح الشهداء، و يترك للكثيرين جروحاً دامية، قد ترى بعضها، و كثير منها يترك ندوباً في القلب.

الأرض روح الخصب و معول الثبات في ميثالوجية البقاء الفلسطيني، ومن روح الأرض رسمت ريشة فناني غزة مواسم الحصاد، و امتداد الأرض بين كفي سيدة بثوبها الفلسطيني المطرز، تعقد التاريخ في محيط زنارها، و تقرأ في وجهها صفحة من تاريخ أجيال تشكلت بين راحة كفيها، و أعمار لا زالت تتفتح على أمل.

تقف حنين أمين بين اللوحات، و تحاول أن تجد إجابة دافئة لتساؤلات الزوار حول كينونة اللوحات و رسائلها، و كثيراً ما تؤكد محاولاتها و فريق العمل في المكتب التواصل مع الفنانين، لكنها تعود و تروي كثيراً من صعوبات التواصل و الإتصال حالياً في ظل الوضع الراهن، واستعار نيران الحرب.

بين الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة مسافة وهم و أسلاك شائكة، و حواجز رسمها الاحتلال، و مسافة وجع صنعها الانقسام منذ سنوات، لكنها الأرض و الهوية الوطنية، هوية واحدة تحكيها اللوحة، في جدار الفصل العنصري الذي تقوض أكواز الصبر أضلعه، و سنابل قمح تمتد هوية الفلاحين أبناء الوطن و أحراره، هنا جنين، وفي جنين نرسم البحر امتداداً لذاكرة لجوء لا زالت مستمرة، وفي غزة يرسمون البحر امتداداً لذاكرة أمل و تحدياً لقوانين تحد امتداد البحر ببضعة أميال لصيادي غزة، ولا يعرف السمك في فلسطين هوية أخرى غير الإنتماء لأبناء الأرض.

اللون في بلادي هوية الأرض، و لا زال صدى صوت حنين يتردد في أذني كلما قلبت صور اللوحات الفنية التي استمتعت بالنظر إليها، و إذ كنت و كنا نحاول النظر في توقيع الفنان، و الالتفات إلى لوحاته المتعددة في المعرض، يتردد صدى صوت حنين إذ تقول: " الفن... اللوحات... الألوان وصلتنا، لكننا الآن لا نعرف الكثير عن مصير هؤلاء الفنانين تحت نير الحرب، هل هم بخير، هل فقد أحدهم بيته، آه ماذا لو تأذت أصابع... يد أحدهم..." هكذا نطلق أنفاسنا بوجع، و لا زالنا على أمل، بحياة لا قيد فيها و لا زال الفنان يوثق لونه، فنه و فكره.


تعليقات

المشاركات الشائعة