جنين مريمنا البتول

جنين مريمنا البتول …. نصوص من ذاكرة

قراءة لكتاب الكاتب عصري فياض 

بارتباك لحظة الحنين إلى الحبيبة، وتحت لهفة الانتظار،و هي جنين المدينة القريبة البعيدة، تقف كلمات العنوان" جنين" يقولها الكاتب كأنه ينادي عليها، و كأنه يخشى ألا تسمعه فهي لا تكاد تلتفت إليه حنيناً، حتى تدير ظهرها وجعاً، و تهز إليها قوافل الشهداء، فيلتفت الكاتب إلينا فيقول: " جنين…. مريمنا البتول." و نتنفس أوجاعنا و نزرع آمالنا و نرتق خيباتنا كل في متن صفحة ما، كلمة ما، تحت عنوان من العناوين الممتدة على إمتداد مئة و ثمانين صفحة.





الكاتب عصري فياض يستل من غمد وجوده الأول في مخيم جنين ذاكرة لحكاياته، و يمتطي صهوة الأسر في سجون الاحتلال الإسرائيلي لمرات عديدة روحاً تزرع في كلماته الثبات، وفي حبره الوفاء، فلا يبهت الحبر مهما عتا عليه الزمن، وقد كان هذا حاضراً في كتبه و إصداراته : " قبس من نور المسيرة، البير، البطاقةو المفتاح، المحطة، دخان البنفسج، و جداريات في سماء المخيم." فكل محطة و كل عنوان من هذه العناوين هو لحظة حسم إنسانية في سجل تاريخ المخيم، و الإنسان الراسخ الثابت فيه، المنتظر بصبر و عزم حتى تنضج أحلام العودة .

على صفحات جنين مريمنا البتول يمتد دفق من الوجع و الأمل بتراتب و تناسق، إذ يقدم إليها مئة من العناوين، لتكون مرايا روحية تعكس صورة جنين، و المخيم، و الأزقة ، الشوارع ، و الإنسان… الإنسان الذي كان الجوهر الأساسي و الجواد الذي لا يهدأ صهيله، هكذا جاءت بعض العناوين حاملة رايات شامخة، مطرزة بأسماء فرسان الأرض، وفارسات جنين، و زهراتها من الأطفال، نمشي في المخيم، نسمع دقات قلب تالا، و أقف في متن نص يكتبه فياض في ظل قلبها، ربما لأني سمعت أنين والدتها ووجعها عليها ذات مرة، تالا لم يقتلها الاحتلال الإسرائيلي حقاً، لم يصوب رصاصه إليها ، لكن قتلها الانتظار، القهر و الوجع و المرض، و سياج يفرضه الاحتلال يضرب عميقاً في الأرض، و يحد القدرة على الحركة و التنقل.

و ربما من الجمالية الروحية التي تبدو جلية خلال تراتب النصوص و الخواطر هي هذه الحواريات، و الحوار الداخلي الصاخب الذي يبنيه الكاتب، فهو يحدث فرسانه، و يحدثونه، يخبرهم كثيراً عن جنين بعد صعودهم إلى العلياء ، و يسمع صوتهم.

سيدتي فاطمة: قولي للكون كانت حكايتك أنك فلسطينية، ويلفت إلى نور، أمجد ، صالح، و رائد ويقول لهم: كل واحد منكم فجر قصة… و ملأ الكون غصة، و مثل حبة هيل و كزهرة أقحوان…كزهرة آذار يفتش عنك فياض محدثاً: أتركت لنا الأحزان يا زياد و قفزت كالليث في وجه الطوفان.
قال القدر… و أثبت أسلوب الكاتب في حواراته الحية مع فرسان جنين، أن لجنين ذاكرة حية، لا تسقط منها أبناءها، فإن رحلوا فهو يحدثهم، و يحاورهم، هو لا يرثيهم، فهم روح الأرض و حياتها، فالكاتب يقدم كتابه إهداء لروح الشهيد زياد الزرعيني و وفاء لعائلته حيث يكتب: 
"إهداء إلى روح الشهيد البطل زياد أمين الزرعيني …ارتقى على ثرى مخيم جنين في السابع من آذار من العام 2023" .

الأسلوبية الفنية و روح الكلمات: 
في الأسلوبية الفنية قدم الكاتب أنماطاً مختلفة من العناوين، فبعضها كان قصيراً موجزاً، يتوافق مع الخواطر الحسية الروحية وما يشبه الومضة: ( الأيام… عدم قناعة…. الأم….اللئيم…الحياة تجارب …. تلك الورد الحمراء…. النهار يشبه حياة الإنسان، و غيرها من العناوين التي تندرج تحت إطار زمني توثيقي، ولا تحمل الجنسية الفلسطينية أو الجنينية، بل هي إنسانية صاخبة، تشبهنا جميعاً ، تشبه أنفاسنا، و تلائم الأرض كل الأرض.
يقول الكاتب مثلاً: (امنح نفسك بعض الوقت لتفكر…تريث…تمهل…لا تتعجل…فقد غرقت مجبراً في مجاملات حتى لامست النفاق، و أنت لست من أهل النفاق.).

الرسائل أسلوب فني متميز: 
قدم الكاتب رسائل أدبية و فنية وإنسانية، أحياناً اتخذت نموذج الرسائل الشخصية، و أحياناً كانت رسائل عامة، و يسألنا الكاتب بوجع: ماذا فعلنا اليوم؟! وفي السؤال أحياء لذكرى المخيم و الصمود فيه، و إعادة ترتيبه بعد كل هزة و كل وجع، و يلتفت الكاتب إلى عمر النايف و يعاود السؤال بنكهة أخرى: عمر النايف ماذا فعلت؟! وطعم حامض يسري في حلوقنا، و تقف كثير من الأسئلة برسم الإجابة ، شوكة في الحلق، تئز و نظل على انتظار، هل يسأله حقاً لماذا تركتهم ينالون منك؟! هل يسأله حقاً ، أم تراه يعتب على المكان و الجدران؟! هل هي الأسئلة التي نأمل منها أن تصنع صدى في الأماكن المغلقة الفارغة حتى لا تبهت الذاكرة.
قالت جنين : تكلم 
قلت: من الصعب أن أبوح لأحد.
قالت: أنا لست أحداً .
قلت: أدري لكن عزة نفسي تحولت في سقف الكبرياء.



تعليقات

المشاركات الشائعة