بقجة الغياب
يرسم الوقت في ملامحها صورة لغيابه، بين حكايتين تهرب منها كثير من ذكريات الوقت الذي أمضياه معا، و تتأرجح على حبال الخيبة، تربط شعرها ببضغ خيوط غير محكمة الحبك، لكنها ملونة، لا تبدو لامعة، لكنها تليق بمنزل صغير، أضلاعه مكسرة، و لا نوافذ لبعض ما تبقى من جدرانه، تحكم رباط شعرها و تنفض ما علق بها من حر هذا النهار، و تأخذ من أمها وعاء الغسيل، الذي لا تدري ما كانه، قبل أن يصبح وعاء للغسيل، عليها نشرها على حبل يمتد بين بقايا عمودين كتب عليهما الكثير من الكلمات، و الرسوم في ما تبقى من ردم هذا المنزل، الذي لا تعرف ساكنيه، لكنه صار الآن منزلها لبعض الوقت، منزلها إلى حين غارة.
(تقول أمي دائماً أن للأماكن روح، تحفظ ساكنيها، تعرفهم، تفتقدهم، تسأل عنهم، وتشتاق لهم، تكرر أمي هذا في كل مرة نضطر فيها لمغادرة بيتنا هرباً من غارة جوية، من قصف إسرائيلي أعمى، نحبس أنفاسنا و نهرب، نهرب، نهرب، إلى بيت الجيران، إلى الشارع ، إلى شاطئ البحر ، إلى زقاق معتم تزدحم فيه القطط، نهرب إلى مدرسة، إلى خيمة، إلى حقول جرداء.)
تتنفس بألم و لا تكاد تسمع كلماتها، فكثير من الكلمات صارت طي أرشيف النسيان، مرهونة بوقف التنفيذ حتى يمل شبح الموت التجول في أرجاء غزة، و تضع آلة القتل أوزارها، في كل مرة تحزم فيها بقجة الغياب المؤقت، تحرص على نقل كتبها، إذ تستعد هذا العام لإنهاء المرحلة الثانوية، بينما تحمل أمها ما تبقى لها من أشياء تصر أنها ثمينة، قيمة.
تنظر إلى قطع الثياب المعلقة، لا تكاد تسمع صوتها، لا وشاح يغني فرحا بنجاحها، ولا فستان لامع، مترف يحفظ خطوط خصرها، ويمتد طويلاً بامتداد ساقيها، و يشق معها أبواب عامها الثامن عشر، هي بالكاد بعض ثياب رثة، استعارتها من جارتها، التي أخذتها من سيدة، كانت قد اشترتها من سوق …. من بائع لا زال يقول إنها ثياب جديدة، لم تكد تصل الميناء حتى أطلقت الحرب أبواقها، تشد الثياب بملاقط غسيل بلاستيكية ملونة، أخذتها من مدربة جاءت توزع بعض ألعاب الحركة الفرح على صغار نهشت الحرب طفولتهم، اقتربت من المدربة التي تبذل مجهوداً كبيراً تحث فيه الأطفال على رسم حلمهم، طموحهم، أملهم، و تشجعهم على تعليقها بملاقط غسيل بلاستيكية على خيط رفيع، يقلب الأطفال الورق، بينما تقترب من المدربة، و تأخذ بعض الملاقط.
أعلق الآن بها ملابسي، أما أحلامي فهي معلقة على حبال الانتظار، موقوفة برسم الأمل، مسيجة بالنزوح، بصوت غياب والدها، صراخه، وعصبيته الثائرة بدفء لن تسمعه ثانية، إذ يعود مساء فيجدها ما تزال تمضغ الورق، دون أن تحفظ دروسها تماماً، استعداداً لإمتحانات نهاية العام، كان يغيب طويلاً، إلا أنه يعود كل مساء حاملاً بعض أكياس الخضار و الطحين، كان يعود دوماً، لكنه أضاع الطريق، تقلب كتبها و هي تقرأ و تحفظ بعض صفحات من كتاب التاريخ، تقول : " أعرف أن الشارع، بل الشوارع مفروشة بالركام، و أنك لا تكاد ترى آثار أقدامنا أنا و أمي، لكنك ستجد الطريق …. ستجدنا دائماً "
تعليقات
إرسال تعليق