مستشفى الشفاء جرائم مدفونة


مستشفى الشفاء.... جرائم مدفونة 


بهدوء دقيق و تسلسل للحظة الوجع و الأزمة الصاخبة، سارت لحظات فيلم "مستشفى الشفاء... جرائم مدفونة" و حكت حكاية الجدران، الطرقات، الجيران، الطوابق الأرضية، الأرضيات المزدحمة، الآلات، الآلام، و الساعة، نعم الساعة، فكأننا ثانية نقف أمام الساعة النموذج الفلسطيني في الألم الذي يخلفه عقرب الوقت فوق أجسادنا، و كأننا ثانية نستعيد نموذج الساعة التي رسمها غسان كنفاني في روايته ( ما تبقى لكم) لكنها هذه المرة وعلى بعد سنوات من الألم الفلسطيني، و في العام 2024، و تحت وطأة حرب اسرائيلية مستعرة في قطاع غزة، و اقتحامات و اجتياحات مدروسة المواقع و الأهداف في الضفة الغربية، هي الساعة نفسها، لكنها ما النافية، و ليست تلك ال ما الموصولة التي كتبها غسان كنفاني، ،أما الساعة المعلّقة على الحائط، ورقاص الساعة الذي يسير مع النعش في جنازة، ليظل رمز الساعة تعبيراً عن عداوة الزمن ومراوغة.





في فيلم ( مستشفى الشفاء... جرائم مدفونة) يحكي الجار، تروي الممرضة، يقول الطبيب، يذكر الجريح، وكل منهم لا ينفك يذكر الوقت، يصبح للوقت صوتاً عالياً في لحظات أزيز الموت، تتدفق الأيام متسلسلة يوماً بعد آخر، اليوم الأول في الحصار، اليوم الثاني، و يأتي صوت الممرضة سارة أبو حطب، " كنا مداومين في العناية المركزة... اليوم الأول للحصار كان يوم الاثنين الساعة ثنينين بالليل" اثني عشر يوماً متواصلا من الألم و التيه و الموت، فجأة يصبح الوقت موجعا إلى هذا الحد، و أتساءل هل يتدحرج الألم أمامنا بهذه الرتابة القلقة، كيف نوثق موتنا نحن الأحياء!





اسمي هنا... تذكروني:

الاسم بصمة الحياة الثانية التي أطلقها بعد بكاء صارخ ينبئ بالولادة، و بلون أصفر، و خط عريض واضح متقن، ظهرت أسماء الأشخاص من جيران و ممرضين و أطباء و نازحين ممن تسللوا من بين أيدي الموت، و نجوا بذاكرتهم و قلقهم لينقلوا لنا ذاكرة أوجاعهم، يرحل الشهداء و يظل الوجع ذاكرة الأحياء، أصغي لصوت ما يقوله كل واحد منهم، و لا زالت الحكايات قيد الانتظار، فلا الحرب وضعت أوزارها، و لا كفكفت دموع الأمهات.

التنقيب عن الأحياء:

يستمر صليل القهر، يستمر القصف، تتلاحق الصور، و يأتي صوت هذا الفيلم التوثيقي بدقائقه الثلاث و الأربعين، على مسافة ستة أشهر من اشتعال نيران هذا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر من العام 2023، لا تنس الاسم، تذكر الوقت، و احفظ ملامح الوجوه بدقة، فربما تضيع الجثث في رمال غزة، و تحت كثير من الطين، و يمر كثير من الوقت قبل أن يسمح لطواقم النجدة و الإسعاف بالتنقيب عن الأحياء بين جثث الشهداء المدفونة في رمال الوجع و الألم و الخيبة.


غزة الصغيرة جداً، الكبيرة دوماً تبذخ بسخاء في تقديم قرابين الحياة لفلسطين الوطن الذي لا زلنا نحلم به منذ ولدنا، ولا يهم حقيقة متى ولدنا، و كم مر من أعمارنا فوق هذه الأرض، أؤمن أننا كنا بها قبل الولادة، و تشكلنا من ترابها و نفخ فينا من روحها، و أنها تجذرت فينا كثيراً و عميقاً، غزة الصغيرة جداً تمر الأعياد فوق جسدها، فوق رملها، و بحرها، في سمائها، وتظل الحكاية، ففي غزة للشوارع حكايات، و في غزة تجول الموت و الرعب في الأزقة الضيقة، في الحارات، على أسطح المنازل، سار في العمارات السكنية والتجارية الكبيرة الفارهة، و مشى في طرقات المخيمات النزقة و تعلق بحبال الغسيل و أعمدة الكهرباء،و حبالها، و كان الموت مستلقيا على شاطئ غزة ذات مرة، لا ذات مرات، و اختبئ في أكياس و علب الطعام التي كانت تقذف من الطائرات كمساعدات عاجلة، لا يلعب الموت في غزة لعبة الغميضة، لكنها الحرب، لكنها آلة الحرب الإسرائيلية التي لا زالت تستمتع بحصد مزيد من الأرواح، و مرت مواسم الحب ولا ورد سافر من غزة إلى العالم، و ستون مليون زهرة يا مروان قيدتها الحرب في غزة، وظلت في سعير آلة الموت الإسرائيلي، في غزة مدارس هدمت تماماً، مقاعد و سبورة محطمة، في غزة نتحدث عن مستشفى الشفاء و المستشفى المعمداني، و جامعة الأزهر، و جامعة القدس، عن جدران و كلمات، و حكايات نخاف أن نفقدها، وعلى ألمها و قسوتها، نتمسك بالحديث عنها نحن الجيل الفلسطيني الذي ولد و هو يحلم ببلاد و مات و لا زال يحلم بها، جيل ولد يسمع أبناءه و أجداده يتحدثون عن النكبة عام 1948و النكسة في العام 1967 و الإنتفاضة في العالم 1987، و بين جيل مر بهذه الإنتفاضة و عاش تفاصيلها، و جيل ولد بعد ولادة حلم الدولة الفلسطينية في العام 1994، يظل الأمل متقدا، كان متقدا في انتفاضة الأقصى و هبات القدس، و في كل حرب اسرائيلية طاحنة شائبة ترمي بنيرانها قطاع غزة، هو جريح نعم، إلا أنه طائر عنقاء يضمد جراحه في كل مرة و يقف، سيقف و تقف الخيام، تنتهي الحرب.

أرفق رابط فيلم مستشفى الشفاء 
وهو فيلم من إنتاج منصة الجزيرة 360

https://youtu.be/IlerY4M9kQc?si=dzKCczifCOSiesmT



تعليقات