التغطية مستمرة
يحدث أن يبدأ النهار في بلدي بضجيج الشاشات التلفزيونية الفضائية، لا زلت على مسافة عامين من غيابي، أراقب صورة فلسطين، طرقاتها، شوارعها،ساكنيها، اليوم لا يمكنني أن ألاحق الأخبار، و استبق لنفسي حكاية أعصر بها الوجع، و أعجنها بكلمات من ثبات وصمود و كبرياء.
لا أسمع سيلاً من نشرات الأخبار، الإذاعات، فوقع الضربات و الهجمات يطرق في أذني ، تهز الغارات الجوية عظام الأرض، و أشرعة السماء، و تعلو في الآذان آلام الأحياء، ففجيعة الموت أقسى من الموت ذاته.
يرتفع يوسف في علياء الحياة، و يطبق الألم فوق صدر أمه، تقلب الوجوه بحثاً عن ابنها،تفتح ذراعيها و تمشي سريعاً لحظة، و على مهل عله يمر بين ذراعيها، وهي تقرأ ملامحه على العابرين: " اسمه يوسف.... يوسف 7 سنين .... 7....شعره كيرلي ....…. وأبيضاني وحلو.."
أعرف الآن أكثر من أي وقت مضى، أن لحظة وصفي الصحفي لأي شخص، لا توازي مهما تحريت من الدقة، تدفق الشعور في كلمات حارة من شفاه أم، أخ ، أب ، صديق.
في الغياب ماذا أقول و برد أطفال غزة يتسرب إلى جسدي، وارتعش برداً بعد رعشات الموت، وفي الغياب أنا لا زلت احتمي بالأمل …تماماً كما تفعلون الآن.
لا ندرك تعداد الوقت، فبعد اليوم الأول من الوجع، من الألم، بعد أول جرح، و أول شهيد، بعد أول بيت تتحطم زواياه، يسترسل الألم في روحنا، اليوم الأول، الأسبوع الأول، المئة الأولى، اليوم الثاني بعد المئتين، الجريح الصحفي الأول، الشهيد الصحفي الأول، و أتقاسم الآن علياء السماء مع مئة و ثلاث و أربعين صحفياً سرق العدوان على غزة أحلامهم، و كتم صوت حناجرهم، و قطع أسلاك معداتهم التقنية البسيطة، تسكت مكبرات الصوت، و يبقى صوتهم حقيقياً هنا، حقيقياً هناك…
هنا غزة مساحة قاسية كحد السكين، و امتداد فاصل بين الحياة و الموت، يرتفع صوت الأمهات:
"قوم ارضع حبيبي.. قوم.." قوم قوم قوم
ولا زال نائماً، و لا زلن قيد الانتظار.
و لا تؤمن النساء بالتمائم، و لا تحاول إنكار لحظة الغياب، لكنها تصرخ بصدق واع:
"بدي شعرة منه.. شعرة واحدة بس،بدي شعرة قبل ما تدفنوه" فعلها تنسج من شعره وشاحاً يدفئ قلبها.
و تحت الأنقاض، حياة أخرى، حياة مع وقف التنفيذ، تسرق العتمة النفس حيناً، و يخطف البرد الروح لحظة أخرى، و يظل صوته رجولياً، يكسره الانتظار و يصرخ ينادي:
"يا عمـــااار.. حاسس فيني؟ مش راح أمشي قبل م تطلع من تحت الر.دم …بستنى ليوم ليومين لسنة لحتى تطلع
بعض الحديث يثقلنا وجعا " لا زالت حربنا طويلة و طريقنا وعرة"، و لا زالت التغطية مستمرة…
شرين أبو عاقلة…. على مسافة عامين من الغياب.
تعليقات
إرسال تعليق