الشرق هو الاتجاه الرئيسي في التراث العربي القديم، وفي الشرق تجتمع العصور.
يحمل كل من الشرق والغرب وجهات نظر مختلفة في الثقافة والأدب والفلسفة، وهذا يعكس بطبيعة الحال الاختلاف في البنية الاجتماعية أيضا. ويعود تاريخ اهتمام المثقفين بقضية لقاء الشرق مع الغرب لعدة قرون خلت. وقد تزايد الاهتمام في العقود القليلة الأخيرة. فإشكالية شرق/غرب لا تزال قيد الدراسة في عدة مراكز أكاديمية، ونجم عن ذلك بالنتيجة نظريات ثقافية واجتماعية بعدة صيغ. إنه مع التعولم وتزايد الهجرة أصبح الحوار بين الحضارات والمثاقفة متطوراً وأكثر تأثيراً.
الإستعمار و صورة الشرق:
خلال عهود الاستعمار، كانت الموضوعات المتعلقة بلقاء العالمين المختلفين تماما، تأخذ شكل صدام بين ثقافتين، وهو ما عبرت عنه النصوص الأدبية. وكان الخطاب الأدبي الأوروبي، وكذلك الشرقي (العربي، حيث تشكل موضوع معركة الشرق مع الغرب)، في الواقع نتيجة للسياسات الغربية الاستعمارية. وهو ما تسبب بخلق نظام كامل حدد أسلوب تعامل أوروبا مع العالم العربي، بما عرف عنه من فرز لأنماط خاطئة، ركزت جهدها لتعذر أو تبرر سياساتها التوسعية.
ومن الطبيعي أن يستجيب الشرق لذلك بما يراه مناسبا، وهكذا تزايدت الرغبة في تشكيل شخصيته الخاصة و إنجازها.
بورتريه الشرق:
كوّن الشرق أنماطا معاكسة عن الحضارة الغربية. فالبورتريه الذي رسمه الشرق لنفسه، في الأدب العربي الحديث، كان له شكل فضاء ثقافي موجه ضد الصور السلبية المضادة. ومن الواضح أن ذلك تسبب للخطاب الأدبي برسم نقاط تقاطب لا تدل إلا على المفاهيم الروتينية والصور المتعارضة لهذه العلاقة التنافسية. حتى أن بعض النصوص الأدبية العربية، التي انتشرت في القرن العشرين خلال فترة الاستقلال والبناء، وطوال فترة تفكيك الاستعمار، قد تحولت إلى نوع من أنواع أسلحة الانتقام.
الجمال يمكن في التفاصيل:
إن الجمال في دول الشرق الأوسط يعيش في التفاصيل الصغيرة. إنه يكمن في صرخات مشوهة لبائع متجول ينادي على وجبات خفيفة مقلية. إنه يعيش في لمعان مجوهرات العروس. أصداء أذان الإفطار كل ليلة خلال شهر رمضان. من خلال هذه التفاصيل الصغيرة، تنبض دول بأكملها بالحياة على الصفحة.
ثلاثية القاهرة:
في «ثلاثية القاهرة» رواية الكاتب نجيب محفوظ، تتنقل أجيال من شخصياته في الحياة الأسرية، وسط التحولات السياسية التي تحدث خارج أبوابهم. تدفع كتابات محفوظ القارئ نحو مواجهة مع حياته الخاصة، وتثير تأملات حول كيفية تشكيل التاريخ لقصصنا الشخصية.
رواية ثلج:
تكشف رواية «الثلج» للكاتب أورهان باموق، التوترات بين الشرق والغرب، والديني والعلماني، وذكريات الماضي وحقائق الحاضر.
الشرق في ساعة بغداد:
بغداد يا كل العصور، بغداد يا كل الدروب، تكشف الكاتبة شهد الراوي في رواية «ساعة بغداد»، فتكشف عن معاناة وشجاعة شعب محاصر في تاريخ لم يصنعه. لقد انجذبنا بشكل خاص إلى الصداقة بين الراوية وصديقتها نادية. في الصفحات الافتتاحية للكتاب، تختبئ الفتاتان من الرحلات الجوية معاً في الطابق السفلي. يحمل المشهد تشابهاً مذهلاً مع العديد من القصص في رواية «أحلام التحدي» لسولا محفوظ، عندما أجبرت عائلة سولا على الاحتماء في قبو منزلهم، بينما كانت الصواريخ تنهمر على منزلهم.
رواية مكان لنا:
نهدى بشكل يومي قرابين عطاء للموت، هل من مكان لنا، هل بقي لنا مكان على هذه الأرض ، في هذا الشرق، تقدم رواية «مكان لنا» شخصية لكل من سولا ومالينا. نشأت مالينا بهوية مركبة - فهي أميركية من أصل هندي - وترتبط بالدفع والجذب الذي يختبره العديد من شخصيات الرواية، أثناء تساؤلهم عمن هم ومن أين أتوا. وتشعر بطلتها بأن أجزاء من حياتها تنعكس في أوصاف من الجمال والكرامة المتأصلة في العديد من التقاليد الإسلامية اليومية.
صورة البطل في روايات التقاء الشرق بالغرب:
الروايات العربية التي ركزت على لقاء الشرق والغرب، تشابهت في تقديم صورة نمطية للبطل،حتى أنها تحولت لظاهرة ثابتة.
حيث كان للروايات مضمون متماثل: فالبطل وقف وسط معركة الشرق ضد الغرب، وغالبا كان قد نشأ في مجتمع إسلامي تقليدي. وسافر إلى أوروبا لمتابعة دراساته، وهناك يمر بأزمة روحية نتيجة الصدمة الثقافية مع المعايير و يعاني مشكلة الهوية الثقافية، وهي مشكلة حادة فعلاً، فهو يشعر بالانقسام، ويتبدل من داخله، ثم يعود إلى الوطن بشخصية مختلفة، لكن التعايش مع الحضارة الغربية وتقاليدها يسبب له تفاقم الشعور الاغتراب وتضاعف أزمة الهوية. وكان الجزء الأهم من تشكيل وصياغة شخصية البطل يعود لتمزقه بين امرأتين: أوروبية مضيفة وشرقية (محلية).
المرأة صورة للحضارة :
أصبح هذا المجاز، الذي يأخذ شكل علاقة غرام بسيدة من الشرق و أخرى من الغرب، ظاهرة عامة في كل الروايات- فالرجل الشرقي يضيع بين امرأتين، بمعنى أنه يقف بين ثقافتين متنافستين. فالعلاقة مع المرأة الغربية يقوده إلى حضارتها، وبعد العودة يجاهد للاندماج في مجتمعه المحلي، وربما يقترن بامرأة محلية.
وبعض الروايات (مثل «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح) تكشف عن صراع يتطور داخل ذهن الكاتب، الذي لا يمكنه رؤية طريق باتجاه واحد لحل مشكلته. وتعمد هذه الأعمال لتوظيف طرق فنية تقدم للقارئ فرصة التعرف على مفهومين: أحدهما راديكالي، والآخر- أكثر اعتدالا، وغالباً تنتهي العلاقة مع الغرب بمأساة تصيب أحد الطرفين، وتسمح للثاني بالعودة والاحتفاظ بهويته السابقة.
وأعتقد أن الكاتب والمفكر المصري طه حسين (1889-1973) هو أهم شخصية مؤثرة في الحداثة العربية خلال القرن العشرين في هذا المضمار. وهو رائد من العقد الأول، وقد درس في جامعة القاهرة، وتابع تحصيله في فرنسا، وقد أثر ذلك على تصوراته عن العالم. ويمكن القول إن طه حسين أيد الانفتاح الثقافي على الغرب، الأمر الذي سمح للمصريين بالتعرف على أسرار تطوره، لكنه وضع مصر وأوروبا في جعبة واحدة، واعتبر أنهما جزء من الحضارة المتوسطية بشكل عام. وفي رأيه، تدين الحضارة الأوروبية لكل من حضارة مصر وللحضارات التي لها أصول إغريقية، بالإضافة للإسلام والمسيحية، ناهيك عن المؤثرات الإغريقية المباشرة. عموما شجع العثمانيون على الترحال في أوروبا، بينما فضلت مصر أن تكون معزولة. وعلى هذا الأساس وقف طه حسين ضد السيادة الأوروبية، ولكن في الوقت نفسه تكلم عن الحاجة لتبني نمط التعليم والتثقيف الأوروبي. وقد ألهم هذا الكاتب الشباب، وعلمهم أنه ليس من المفروض أن يتحولوا إلى أوروبيين، ولكن عليهم أن يبذلوا جهدهم لاكتشاف أنفسهم (العناني: 2006). وقد نشر طه حسين روايته «أديب» عام 1935. واستخدم طريقة فنية قارب فيها موضوع لقاء شرق- غرب، ولم يكرر هذه التجربة في بقية أعماله. واختار أن يكون للحبكة خطان أساسيان، وكان سرده تعليميا بشكل واضح. وذهبت الشخصيتان الأساسيتان – البطل والراوي – باتجاه واحد. كلاهما سافر من مصر إلى باريس بمنحة. وعبرا عن معاناتهما بتبادل الرسائل. واصطدما بحضارة أوروبا الحديثة وتأثرا بها. وكانت مشكلتهما هي تحديد الهوية الثقافية في مواجهة الحضارة الأجنبية. وأسهم ذلك بتشكيل ثقافتهما ووجهات نظرهما عن العالم، وخلق تنافرا بينهما وبين الطريقة القديمة أو التقليدية في الحياة. وكانت الأفكار المختلفة والمتعارضة تبرز في الرواية أثناء الإقامة في الغرب. لكن من جهة مثلت أم أديب دور الشخصية الأساسية التي تتبنى الفكر القديم والتقليدي، فقد اعترضت على سفر ابنها إلى أوروبا. ومن جهة مقابلة، مثل أديب نفسه، المشتاق للسفر والدراسة، التفكير المعاكس. ولم يوفر جهدا لتحقيق ذلك. حتى أنه طلق زوجته ليصل إلى حلمه.
وكانت الثقافة العربية التقليدية تبدو دائما في الروايات العربية بشكل أنثى، وهذا رمز شخصنه طه حسين في (أديب) من خلال صورتي الأم والزوجة المصرية. وقد تكررت الصورة نفسها لاحقا بأشكال مختلفة في الروايات العربية التالية. ومن المهم أن تلاحظ أن طه حسين قدم الأم على أنها تعارض سفر ابنها. وبالضبط كانت الأم الجهة التي لا تسمح لابنها بمغادرة أرض الوطن إلى الغربة. وفي هذه الرواية، يؤكد طه حسين على العزلة الثقافية المفروضة على مصر، ويوظف أفكارا نمطية عن العالم الخارجي، وهي أفكار موجودة في ذهن المجتمع المحلي التقليدي، الذي يرى أن رحيل شاب إلى الخارج عبارة عن خطر غير مرحب به. وقد صورت رواية «أديب» موقفه من كلا الثقافتين الوطنية والأوروبية في واحدة من رسائله، التي أرسلها إلى الراوي، ويقول فيها: «ولكن إذهب إلى الأهرام… وانفذ إلى أعماق الهرم الكبير.. وستحس اختناقا وسيتصبب جسمك عرقا، وسيخيل إليك أنك تحمل ثقل هذا البناء العظيم، وأنه يكاد يهلكك. ثم اخرج من أعماق هذا الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف. واعلم بعد ذلك أن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم. وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق». (أديب).
لكن الخط الأساسي الآخر في الرواية، لا يدعو للتأقلم مع الثقافة المحلية. ولنتوقف عند لحظة وصول (أديب) إلى باريس. ستجد أنها تترافق مع شعوره المزمن بالاغتراب. وعلى الرغم من أنه تبنى أساليب الحياة الغربية وانفصل عن جذوره، فقد فشل في الاندماج، وهو ما أدى في النهاية إلى تفككه وانهياره. وفي حالة الراوي (الشخصية الأساسية الثانية في الحبكة) يتم تخطي أزمة الهوية لأنه لم يفترق عن جذوره، وحاول أن يتبنى فضائل الثقافات الأخرى، بدون أن يمنعه ذلك من الاحتفاظ بفضائل ثقافته. وعليه، طور طه حسين في روايته فكرة مفادها: إنه ليس من الضروري أن تبدل وتفقد هويتك الخاصة، أو أن ترفض خصوصياتك وتتبع الآخر على نحو أعمى، ولكن عليك إدارة وتحديث هويتك مع التأكيد على ضرورة الاحتفاظ بها.
تعليقات
إرسال تعليق