الرحلة من الجنوب إلى

 الرحلة من الجنوب إلى.. و مسارات حكائية متعددة


لا أحب اللون الأسود، فكرت بالأمر مرتين قبل أن أقترب و أتصفح كتاب"رحلة من الجنوب إلى" و قلبت العنوان في ذهني و تساءلت لما لا تكون الرحلة من الجنوب و حسب دون هذه ال إلى المشرعة على احتمالات العبث اللامتناهية، و بين كثير من التساؤلات الصامتة التي تدور في ذهني، كان ضوء يشع من طائر الشمس الفلسطيني كفيلاً بأن يجذبني لتصفح الكتاب، طائر يلقي بنوره على جسدين لطفل و طفلة و أحلام كثيرة ترقد بالقرب من جراح نالت منهما.







هوية الكتاب : 
الرحلة من الجنوب ... إلى.... رحلة بنت و ولد و حمار وقط و  عصفور،  هي ليست رحلة فردية كما تبدو، لكنها رحلة في أعماق الفرد، البحث في متون جيل من الأطفال الذين عاشوا و كبروا ولا يزالون يعيشون تحت وطأة الحرب في غزة منذ أعوام، كيف يكبر أطفال لا يحرمون من التعليم وحسب، بل يفتقدون صوت و صورة المدرسة التربوي والتعليمي، فللمدارس ظل آخر تمتد فيه حبال الغسيل، و تزدحم فيه الرؤوس، و تتدافع الأكتاف لا لتشتري بعض الشكولاتة في الاستراحة المدرسية، بل لتحظى بغرفة لا ينام بها خمسون شخصاً، أو لتحظى بجلسة هادئة على مقربة من نافذة مكسورة تطل على ازدحام بشري أمام طنجرة طعام مهترئة بلون أسود قاتم.

يقدم الكتاب نفسه برشاقة و حيوية الصورة التي تقدم نفسها كشريك أساسي و جوهري في متن الكتاب، إذ تأخذ اللوحات الفنية مساحة كبيرة من صفحات الكتاب و تنفرد اللوحات في كثير من الصفحات، إذ تصمت الكلمات و تتنحى جانباً بهدوء و اتزان، ففي كثير من الأحوال ليس هناك الكثير ليقال.

حكاية واحدة وحق محفوف بالمخاطر مرهون بالمصادرة: 
كأن عنوان الكتاب الثانوي يشي و يختصر كثيراً من الحكاية: ( بنت و ولد وحمار و قط و عصفور)، يبدو الأمر كذلك، إذ تعتقد أن الكتاب وشى بكل شخوصه في سطره الأول، لكن لا تكن واثقاً، فحكاية أخرى تنبت تحت الركام، و قصة ما تكبر في جدران منزل كسر نشاز الحرب روتينه، و أخرجه عن طوره، وفي الحكاية تسلل إلى مساحات أمان، و هروب من أشباح الموت، فالرحلة كلمة توحي بالحركة، و إن كان المسار محض سراب، كلما اقتربنا منه، بات أبعد و علا صوت الوجع فيه.

في الحكاية مسارات متنوعة تسير معاً في الطريق إلى الشمال، وهنا استعيد صوت رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، الحكاية التي تعرض حالة البحث في الهجرة عن مكان مختلف، يجلي كل ما علق في النفس من نتوء و غبار، وفي رحلة فكرية وعاطفية أخرى ، يستعرض الكاتب المغربي حسن أوريد في كتابه الصادر في العام 2023 (رحلة من الجنوب)  تحولات شخصيته الفكرية والدينية، عبر تأملات ذاتية تنقله من حالة الشك إلى اليقين، إذ يعرض  تأملات إنسانية تعكس الصراع الداخلي الذي مر بطل الرواية الذي كان في رحلة مستمرة للبحث عن الذات وتجاوز التحديات الدينية والفكرية.

و رغم الفارق الزمني بين الأعمال الروائية هذه، إلى أن حالة البحث عن طريق عبور آمن، و السير في رحلة البحث لا يزال قائماً، و يتنقل بين الأنماط الأدبية ليصل إلى وعي الصغار و أدب الطفل، فرغم أن الأمان واحد من الحقوق الإنسانية المحفوظة دولياً، لكنه حق محفوف بالمخاطر مرهون بالمصادرة تحت وطأة الحرب

ثلاثة مسارات و حكاية واحدة: 
تبدو الحكاية صاحبة، مشحونة بالحياة، رغم ما توحي به من حالة التنقل بحثاً عن الأمان، و كأن الحكاية خلقت بين ثنايا ورشات عمل كبيرة، و تسللت بين حوارات صباحية اعتيادية عبر الانترنت أو الهاتف، والكلمات رغم هدوئها إلا إنها مشحونة بثقل كبير، و عن مسارات ثلاث و حكاية واحدة أتحدث، فالصورة تشكل مساراً قصصياً زاخراً بذاته، مشرعاً أمام احتمالات السرد القصصي العميقة، و وقفات ذهنية نفسية تجعلني استعيد ما نشأ عليه جيل كامل في شارع سمسم، وما تعلمه جيل من زيد و عمرو، و أبي الحروف،  ففي الكتاب وقفات مثل التفكير بالقطة و ذيلها كأداة تعبيرية، و الوقوف أمام احتاج الإنسان للعناق، هل نحتاج عناقاً، و العلم، الأكلات، و الكثير الكثير مما سمي لاحقاً في ملحق الكتاب بالمحطات.

وفي الكتاب مسار أول بدأ برسالة صغيرة موجعة، بحروفها التي كتبت بأنامل غضة، أصابع بيسان تفاح، حي البساتين، غزة.
و تكتب عمري عشرة أعوام و تضيف التاريخ 2023/10/9 و على مسافة مسير ستة أيام تصلنا منها رسالة أخرى إذ تصل من الجنوب إلى الشمال في بيت الجدة القديم، الجدة صورة للأمان في التاريخ، و الأصالة و الانتماء إلى الجذور .

تعليقات