مياو ....مياو و أشياؤنا الثمينة

مياو مياو
تسير و تظن الأمر فقط مواء قطة شاردة، يقلقها ارتفاع درجات الحرارة غير المسؤول، لكن المواء يعلو مواء الوجع بالغياب و ترك جدران المنزل، و الحديقة الصغيرة، و القطط الأخرى في الجوار، و مواء الدليل و الطريق، فالقطط تعرف طريق العودة دائماً و تدركه بوعي يفوق معرفة خرائط جوجل (google map) و ذكاء و حنكةAi.

قبل سنوات مع القلق، و الظروف المتغيرة في فلسطين دائماً، كانت هناك قطة، رسمتها ظروف اللحظة القاسية، و كتبت خطوطها و تتبعت خطوها الكاتبة ليانة بدر، أما تلك القطة فوجع اللحظة كبلها خلف سلاسل حديدية، و تلك القطة ابتلعت قهرها ووجعها فلا تقول نياو!
فلا نسمعها، لا ندرك طريقها، لكننا نلحظها دائماً نراها تجلس مقرفصة في زاوية القفص، ساكنة كثيراً ولا زال الوجع خارج القفص يبني اقفاصاً كبيرة بلا سلاسل حديدية .

مياو... مياو قصة قصيرة للكاتبة أحلام بشارات و رسوم الفنانة هيا حلاوه صادرة عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي   للعام 2025 وهي واحدة من القصص التي تفترض وجود شراكة حية بين النص و اللوحات الفنية، واللوحة لا تفسر الكلمات و لا ترسم العبارات ، لكنها تكمل مشهداً مجزوء موجعاً ، و تبحث في ليل اللحظة عن أمل ما في كل هذا الظلام.

اللجوء و النزوح ليس رحلة قصيرة نحمل فيها أشياءنا الممتعة، موسيقاها المسلية، تهدي الكاتبة
قصتها للطفلة فاطمة و عصفورها منصور، و من لحظة عبورهم القاسية، تعيد سرد حكاية توتو و منصور، طفل و طفلة يتهجآن أبجدية الحرب للمرة الأولى من وعيهما، ربما مرت حروب كثيرة عليهما في الصغر، لكنهما الآن يقرآن حروف الحرب، و يسيران في أزقتها، و يسمعان صوت القصف، و ألوان الدمار.

كثيراً ما حمل الفلسطيني أثقاله، و نزح فيها مرة بعد مرة، بين اللجوء 1948 والنزوح1967 وآلام و شتات بينهما، وبعد و غياب إثرهما في مواقع مختلفة في دول النزوح و الشتات، وإعادة تشكيل لحظة الوعي مرة بعد مرة في أماكن جديدة مستجدة.

في وعينا، و بارتداد لحظة الآن التي نعيشها في الضفة الغربية وقطاع غزة، يتشكل المكان القصصي لدينا، دون أن تحدده الكاتبة، أو الرسامة، فالبيت عادي بنمط معماري مألوف، كذلك النوافذ،و السجاد على الأرض ، غطاء السرير،صالون المنزل، الطاولة، الأريكة، كل شيء يبدو عادياً مريحاً، و فلسطينياً ابن دون مبالغة في إظهار الهوية، و التزركش في الثياب المطرزة، فإنها الحرب، ولا نفس في الروح للتزين.

البيت:
من أهم الهويات التي عرضتها القصة كانت البيت،بكل ما فيه من تفاصيل، ذكريات، أشياء متنوعة، ألعاب ،أصيص زرع،ملابس، كتب،اريكة،صور، جدران، و جوار، و هوية البيت قدمت من خلال شخصيات أربع، فالأم كانت شخصية تحصنت بالصبر والأناة و الثبات و أخفت كثيراً من الألم و القلق، احتار منصور ماذا يحمل معه، فردت عليه من بوابة الأمومة، وليس من بوابة الخبرة -إذ إنها ليست البقجة الأولى التي تجهزها، لكن الآن أصبح إسمها حقيبة سفرـ قالت : شيء صغير(خفيف) ، وضروري و تحبه.


صور و هويات:

و نرى صوراً لكثير من الأشياء الصور المعلقة على الحائط مهمة، تحمل ذاكرة، نحبها كثيراً ، لكن هناك أشياء ضرورية ،يلمس الأب و الأم ذاكرتهم المعلقة على الجدران، و يفتش الأب عن الهويات و الشهادات إذ تبدو أكثر أهمية ، وكأن لسان وجعه يقول: إذا بقينا أحياء نبني لنا أيام جديدة، وذاكرة جديدة نعود بها إلى هنا يوماً ما.
توتو تفتش عن ألعابها، تجمعها بين ذراعيها الصغيرين، وفي صغرنا يبدو الوجع أصغر، فلدينا قليل من الذاكرة و الأشياء الثمينة، و الوجوه التي نحب، و الأصوات التي نألف.

حقيبة أم:
تحمل الأم حقيبة صغيرة ، لا أعرف ماذا وضعت فيها، لم تتحدث، لم تحكي عن ألم التفتيش و المفاضلة بين لحظاتها و أشيائها لتختار شيئاً مهماً و ضرورياً و تحبه، هل اختارت أشياء لنفسها، أم لعائلتها، ماذا يبقى من المرأة بعد أن تصبح أما لتحميله معها؟.

طائرات و جنود:
سفر... مدينة... قطارات.... طائرات...جنود، يفكر الأب بينما يحمل جوازات السفر عبثية: ( إلى أين نسافر و الجنود يحاصرون المدينة؟!) في إضاءة حامض تئز في الحلق محملة بالكثير من القلق والتوتر الذي يتكبدها الفلسطيني في محاولاته للخلاص الآني لبعض الوقت في مكان آمن ما في الشمال حيناً، في الجنوب حيناً، في ظل مدرسة، تحت سقف مستشفى ، في مكان ما بعيداً عن ضوضاء الجنود.

تعد العائلة نفسها، يجهز كل منهم نفسه ، و يطوف  بنظره أخيراً في المكان، لا يحمل منصور شيئاً معه،تلتفت إليه أمه، فينظر إلى قطته، و عائلته، يذكر أسماءهم، يناديهم،كأنه يتأكد من وجودهم و يخرج معهم فهم أشياءه الثمينة و الضرورية التي يحبها.


تعليقات